لن احاول تدوين ما تمنحنا اياه المعجمية العربية في شان مكة
فلقد جربت ، وانتهيت الى انني احتاج الى مؤلف صغير اذا تناولت الامر من خلالها
وبمختلف ظواهره
لذا ساحيل الى مصدر واحد حاول الاحاطة باراء علماء اللغة حول مكة وهو كتاب معجم
البلدان للحموي في المادة ذاتها
وانهى مطالعته براي له ، لا يخلو من طرافة واقتراب من المناخ الذي تحيل اليه
المفردة ، فلقد قال الحموي (وقال عبيد الله الفقير اليه وجدنا انها سميت مكة من
مك الثدي اي مصه ، لقلة مائها ، كانوا يمتكون الماء : اي يستخرجونه )
وهناك من علماء اللغة من ذهب الى ان الامر لا يعدو الابدال بين حرفي الميم
والباء ، وهو ابدال معروف ليس في اللغة العربية وحدها ، بل وفي الساميات ايضا
فهما حرفان شفهيان مجهوران متقاربان في المخرج والصفة ، لذا كثر تبادلهما .
واسوق امثلة سريعة من العربية لبيان الابدال بين حرفي الميم والباء : كثب وكثم (
جمع ) ، كبح و كمح ، بتر ومتر ، بحت ومحت ( خالص )
يشب ويشم ، غيهب وغيهم ، كعسب و كعسم ( هرب ) ، اسهم واسهب
في الكلام ، زردب و زردم ( خنق ) ، الرباء والرماء ( الزيادة )
، اربد وارمد وجمهرة واسعة من المفردات .
اما الابدال بين الحرفين في بعض اللغات السامية ( الجزيرية ) الاخرى ، فيمكن ملاحظته
في : في العبرية ترد مفردة ( رب ) بباء مثلثة ( P ) لتطلق
على العظيم والسامي ، وعندما نبدل باءها المثلثة ميما سنحصل على ( رام ) بذات
المعنى وهما من اسماء الله الحسنى بالعبرية ، مع الاشارة الى ان رب من المشترك
السامي ( اي الذي تشترك فيه اكثر من لغة جزيرية قديمة ) .
وبين العربية والعبرية ترد مفردة ( بحن ) للاختبار والامتحان وفي العربية جذر ( محن
) يمنحنا الدلالة ذاتها .
وذات الفعلين يردان بلفظهما في السريانية ايضا ، اي ان بحن السريانية تقابلها محن العربية
.
وايضا مفردة ( زبنا ) السريانية ، بباء مثلثة P وتعني الزمن والوقت والحين ،
تقابلها زمن العربية .
يرى بعض علماء الساميات ان اصل مفردة مكة يعود الى اللغة الحبشية في صورة مفردة
( مكورابا ) بمعنى معبد او هيكل ، ومن الضروري ان نعرف ان اسم الحبشة
ذاته يعود الى قبيلة ( حبشت) السامية المهاجرة ، ورغم ان في الحبشة اجناسا من
الساميين والكوشيين والافارقة ، وان عدد لغاتها من هذه الاصول يبلغ قرابة الاربعين لغة ،
الا ان اللغات السامية التي حملتها العشائر العربية الجنوبية ، اماتت العديد من اللغات الاصلية
المعزولة ، ومن هنا سيكون من اليسير علينا معرفة ان اوسع لغتين متداولتين في الحبشة
وهما الامهرية والجعزية من اصل سامي جزيري ، وهذا سيقودني الى الحديث عن سامية مفرة
مكورابا .
واجد ان بحثنا عن اصل مفردة مكة او بكة يجب ان يتجه الى المعجمية السامية
ومايمكن ان تمنحنا اياه من مفاتيح .
يرى الباحث عبد الحق فاضل ان الها بابليا اسمه ( بكه) والكاف هنا تشبه صوت
الجيم الاكدي او الجيم المصرية ، هو الاصل الذي خرجت عنه المفردة .
ولقد ذهب مذهبا عسيرا في اشتقاق نظائر له او حتى في تاصيله .
واقول ان هذا الامر يقترب كثيرا من الحقيقة ، رغم ان الاستاذ عبد الحق فاضل
غفل وبشكل كامل عن الابدال في الساميات ، الذي يجعلنا نقف قريبين جدا من فهم
اصل الجذر ونبتعد عن الوعورة التي تقود اليها محاولة التاصيل .
فهذا الاله البابلي كان معروفا منذ مايزيد على الالفي عام قبل الميلاد ، ومازالت اثاره
يمكن تلمسها في مفردة بغداد ، التي لم يعد بالامكان تاصيلها واشتقاقها من المعجمية الفارسية
بسبب ان حجرة للحدود اكتشفت في موقع بغداد الحالية كان يحمل اسمها وتعود الحجرة الى
ايام الملك البابلي حمورابي ، الملك السادس من ملوك سلالة بابل الاولى ، ولقد دام
حكمه من 1792 1750 ق. م ، وهو صاحب الشريعة المعروفة . وكانت الحجرة تشير
الى ان هذا الموقع تحفظ في اسلحة واعتدة الجيوش البابلية .
الاشكال الكبير الذي وقع في الدكتور عبد الحق فاضل رحمه الله انه لم يتمكن من
تعريف الاله البابلي ولا كيف انتقل من البابلية الى جنوبي الهلال الخصيب ولو بكلمة واحدة
ليتمكن من تعزيز طرحه وكيف دخل الى هذا النسيج اللغوي وماهي صوره الاخرى .
وهذه كانت اسبابا لعدم الاخذ برايه
وهنا اريد التاكيد على ان الاله ( بكه ) تواتر تداوله حتى الدولة البابلية في
عصرها المتاخر ( الكلدانية ) في صورة بل التي قلب الفرس لامه غينا كما هو
معروف في ان اللسان الفارسي يقلب اللام السريانية غينا ، حتى عد عالم الساميات لسترانج
ان الاصل في بغداد هو بلداد وداد مفردة كلدانية مازالت متداولة في العامية العراقية وتعني
حبيبي ، ويكون جماع المفردة ( بل حبيبي ) .
لا اريد الاستطراد في هذه المفردة وخصوصا شطرها الثاني (داد) الذي يحتاج بيان اصله الى
بحث مستقل . واعود الى التذكير اننا سنجدها ايضا في ( بعلبك ) وبعل مفردة
من المشترك السامي وتعني السيد والرفيع واما شطر المفردة الثاني فهو ( بك ) الاله
البابلي الذي شاع في الهلال الخصيب وقبائله ودويلاته القديمة .
وهنا اريد التاكيد على ان المفردة هاجرت باتجاه معجميات اخرى كالمعجمية الفارسية في صورة (
باك ) بباء مثلثة p وتعني الطاهر والصافي وهي صفة تطلق على الصحابي الجليل سلمان
الفارسي . وهذا الامر شائع بين اللغات اذ تهاجر المفردات من لسان الى اخر وتخضع
لقوانينه اللغوية والاشتقاقية المختلفة .
ومن هنا اجد ان مكورابي المفردة الحبشية التي يعتقد انها اصل كلمة مكة ، هي
ذات اصل سامي يعود الى الاله البابلي ( بكه ) بابدال الباء ميما كما راينا
ومن ( رب ) المفردة المشتركة بين اللغات الجزيرية القديمة والتي تعني العالي والرفيع والعظيم
.
وكما نعرف فان الملك البابلي نيوبيد امتد نفوذه الى تيماء وما يحيطها ولقد مكث بنفسه
هناك عقدا كاملا لمحاربة الفراعنة ، وقد يكون الاسم قد شاع وانتشر في هذا المحيط
السامي حتى صار متلازما مع المدن المقدسة كما في بغداد وبعلبك باضافته الى مفردات والهة
اخرى .
اما في مكة فلقد دخلها دون ان يطرا عليه شيء سوى الابدال وماتخضع له المفردات
عند دخولها الى بيئة جديدة .
نعلم جميعنا بان مكة مكان مقدس عند المسلمين وجميعنا يسمع باسم مكة وهو رمز اسلامي
يعتز فيها كل مسلم وهي المدينة التي ولد فيها اشرف الرسل والانبياء سيد البشرية محمد
صلى الله عليه وسلم، واول بيت وضع في الارض بني في مكة، لكن هل نعلم
ما معنى اسم مكة، ولماذا سميت مكة بهذا الاسم .
مكة من اقدم مدن الارض حاضرها وماضيها تحتضن الكعبة المشرفة وهو اول بيت بناه سيدنا
ادم عليه السلام وهو اول من سكن مكة المكرمة، مكة كرمها الله عز وجل وجعلها
من اعظم المدن، سميت مكة بهذا الاسم حسب ما ذكرته كتب التاريخ نسبة الى المكان
الذي يكون الماء فيه قليل، ومكة كان ماؤها قليل وكانوا قديما يستخرجون منها الماء لانه
لا يوجد فيها ينابيع، وقيل ايضا مكة تقال للمكان المزدحم، فسبحان من اخرج ماء زمزم
من مكة وجعلها ارض الطواف من كل فج عميق .
مكة بتشديد حرف الكاف يكون الفعل من اسم مكة هو مككك والفعل يعني استخرج الشيء
بشدة، نذكر هنا عدة اقوال في معنى اسم مكة، حسب ما ذكرته كتب التاريخ مكة
كلمة كان يطلقها البابليون على البيت حيث كما نعلم تعاقبت الكثير من الحضارات القديمة ولعل
اسم مكة كان يستخدم لانها كانت تحتضن اول بيت في المعمورة، قول اخر لاسم مكة
وهو المكان المقدس وهذا يرجع لقدسية الكعبة المشرفة .
بالنظر الى معاني اسم مكة نراها اكتسبت من اسمها نصيبا فهي المكان المقدس والمزدحم من
دون بقاع الارض وهي ايضا مكان جاف لا تكثر فيه المياه وانما يستخرج منها الماء
وعندما ضرب سيدنا اسماعيل الارض تدفق ماء زمزم بقدرة الله تعالى وفي ذلك حكمة حتى
لا يموت هذا الطفل الصغير وتبقى مكة مع هذا النبع مركز لجذب الناس والحجيج سواء
من ذهب للحج ومن ارتحل في قوافل تجارية يمر في مكة المكرمة، ولا ننسى انها
تحتضن بيت الله الحرام وهي الكعبة المشرفة وبقي الناس في الحضارات القديمة يرددون اسم مكة
نسبة لتلك البقعة التي تضم هذه البيت الحرام.
و اخيرا نشير ان مكة المكرمة لها اسماء كثيرة كما ذكر في القران الكريم في
عدة مواضع سميت بام القرى لانها اول مدينة في الارض من زمن ادم عليه السلام،
وسميت ايضا بالبلد الامين والقرية، وسميت ايضا ببكة، ووصفها سيدنا ابراهيم علي السلام كما ذكر
في سورة ابراهيم بانها الوادي الذي لا يوجد فيه الزرع وهذا يرجع لقلة الماء ومناخها
الجاف والحار .